راديو موال – بقلم نور عودة – من الواضح أننا كمجتمع نعاني من فقدان للذاكرة أو أننا آثرنا باستهتار أن ننسى ماذا يعني أن يحل الفلتان وأن تغيب المحاسبة. وللتذكير، فإن قطاع غزة لم يسقط رهينة في العام 2007 بل قبل ذلك بأعوام، حين حل الفلتان وغابت المحاسبة وسقطت مع هذه الحالة هيبة ومكانة الأجهزة الأمنية المكلفة بحفظ الأمن وتطبيق القانون. غزة سقطت حين استبدل القانون بشريعة الغاب وحين تهاون المؤتمنون وبخسوا من دماء الناس فصارت أكبر الجرائم تحل على فنجان قهوة. يبدو أن لعنة التاريخ تلاحقنا وأننا لم نتعلم الدروس من الأخطاء والخطايا التي ارتُكبت في غزة لأننا نتهاوى وسريعاً إلى أتون الفلتان هنا في الضفة المحتلة ولا زالت مظاهر الفلتان تعالج بالطبطبة وفناجين القهوة!
أُذكَر من لم يعد يتذكر أو يحاول أن يخدع نفسه والمجتمع بأن ما يحصل اليوم في مدن وقرى الضفة الغربية ليس فلتاناً. في العام 2003، قام قتل شخصٌ راجح أبو لحية، قائد القوة الخاصة في قطاع غزة آنذاك، في وضح النهار ثم ولى هارباً إلى أحد المخيمات في قطاع غزة ليلقى هناك مساندةً وحماية رغم ما اقترفه من جريمة. في حينه، تبين أن القاتل ينتمي لحركة حماس التي أعلنت أن ما حدث هو حادثة ثأر لا علاقة لها بها لكنها رفضت التعاون مع أجهزة الأمن لإلقاء القبض على الجاني المعروف. لم يقبض على القاتل ولم تدخل الشرطة المخيم وكُسرت هيبة الجهاز المؤتمن على أمن وسلامة الناس. وبعد هذا الحادث بسنة، اختطف مسلحون قائد جهاز الشرطة وأذلوه وتباهوا بفعلتهم ولم يتم التصدي لهم ولا إلقاء القبض عليهم. وفي ذات العام، قُتل قائد جهاز الاستخبارات العسكرية موسى عرفات في هجوم مسلح على بيته واشتباك مسلح انتهى بقتل عرفات واختطاف ابنه الذي أطلق سراحه لاحقا دون أن يتم إلقاء القبض على المجموعة التي نفذت الاغتيال. وتتالت معالم الانهيار، متمثلة باغتيالات لضباط ومسؤولين واشتباكات مسلحة وزعرنات حتى أتى اليوم المشؤوم في 2006 وقتل مسلحون ثلاثة أطفال هم أولاد ضابط المخابرات بهاء بعلوشة. الأطفال قُتلوا في وضح النهار وأمام أعين والديهما اللذين شاهدوا الفاجعة من شرفة المنزل. ولم يُحاسب أحد على هذه الجريمة النكراء.
كان معلوماً في حينه أن كل مظهر من مظاهر الفلتان والزعرنة التي تجتاح القطاع لها من يتبناها ويحميها من المتنفذين والشخصيات القوية من كل التنظيمات. وكانت الحوادث الكبرى هذه تعالج على فناجين قهوة ويصل الجميع إلى تفاهمات تؤجل المحتوم وتقضي على مفاهيم القانون وتعزز غياب حس المواطن بالأمن وانعدام ثقته بمنظومة الأمن كلها. أضحينا قبائل ومجموعات تغير على بعضها البعض وتنشر الموت والخراب إثر أي إشكال تافه، معززة شريعة الغاب ومسرعة بالانهيار الذي حضرت له حماس بعناية وإتقان.
من لا يرى أوجه الشبه بين تلك الأحداث وما يحدث في الضفة الغربية فهو مصاب بعمى البصر والبصيرة! من لا يرعبه أن شجاراً بين عائلتين في يعبد تطور بلمح البصر إلى اشتباك مسلح عنيف حرقت فيه منازل وقتل وجرح فيه الأبرياء فهو مصاب بالانفصام! ومن لا يقلقه أن منزل ضابط يتعرض لإطلاق نار مرتين في ذات الليلة في نابلس وينتج عنه مقتل ضابطين وجرح زوجة أحدهما فهو يعيش في برج يبدو عاجياً لكنه في حقيقة الأمر من ورق وسينتهي به الأمر ضحية النيران التي ستلتهم برجه هذا وما حوله!
قبل فترة قصيرة، حدث اشتباكٌ كبير بين أجهزة الأمن ومطلوبين للعدالة في مخيم قلنديا. بعض من لا يعتبرون من التاريخ القريب ثارت ثائرتهم وقالوا أن هذا استهداف للمخيم، وكأن مجتمعنا مقسم إلى قبائل ومجموعات تستهدف الواحدة الأخرى دونما سبب. نتج عن الاشتباك مقتل فتى لا ذنب له في ظروف لا زالت قيد التحقيق وانسحبت قوات الأمن من المكان لكنها لم تعالج الظاهرة ولم تلقي القبض على من تسببوا بهذا الاشتباك. وقبلها، خطفت مجموعة سيارة للشرطة من أمام مبنى بلدية البيرة وذهبت بها إلى مكان معلوم. وبدل التصدي لهذا الحادث الخطير كما يجب، أعيدت السيارة وأقفل الملف والحل كما العادة كان على فنجان قهوة!
في قطاع غزة، وصل الأمر بضباط وأفراد الأجهزة الأمنية إلى رفض تطبيق القانون وتنفيذ التعليمات خوفاً على حياتهم ونتيجة علمهم أن دمهم قد يراق ويذهب حقهم وحق المجتمع على فنجان قهوة. هل نريد أن نوصل الأمور هنا إلى هذا القاع؟
القيادة الأمنية والسياسية مطالبة بملاحقة رؤوس الفلتان ومن يقفون خلف هؤلاء المسلحين الذين يعيثون بحياتنا ودمنا فسادا. هم مطالبون بموجب مسؤولياتهم الوطنية والقانونية أن يتصدوا دون مواربة أو محاباة أو فناجين قهوة لهذه الظواهر التي تلتهم أقدس مربعات الحياة: الأمن الشخصي لكل منا. كفانا ما حصل بنا. لا تزجوا بأفراد الأجهزة الأمنية إلى مواجهات يكونون هم ضحاياها ونكون نحن وقودها لأنكم تعيشون حالة مذهلة ومرعبة من الإنكار. هذا السلاح يجب أن يتم جمعه في الحال وهذه الحالة يجب القضاء عليها وإلا قضت علينا جميعا. لا نريد مجالس قهوة تؤجل الكارثة، لا نريد تصريحات لا تترجم فعلا. آن الأوان أن تستيقظوا وتلعنوا القهوة التي أوصلتنا بنا إلى ما نحن فيه.