بعد 50 عاما من المحاولات: العالم يتمكن أخيرا من سماع الكون

راديو موال :  قام العلماء بالفعل بالإعلان عن تمكنهم من رصد موجات الجاذبية، آخر نبوءات النظرية النسبية العامة لأينشتين غير المثبتة، والإعلان عن هذا الحدث العلمي العالمي غير المسبوق في مؤتمر صحفي رسمي يوم الخميس 12 فبراير 2016.

سماع صوت الكون

علماء الفيزياء قاموا بالإعلان فعلاً عن وجود موجات الجذب، والتي تمثل تموجات في تركيبة (الزمكان). تخيل أن الكون (الزمان والمكان) عبارة عن مكعب ضخم من الماء، وبالتالي فإن كل تحرك للأجرام السماوية يتسبب في حدوث توتر أو تموج للمياه المحيطة به، وكلما كان حجم الجرم كبيرا كلما كانت التموجات الناشئة عن دورانه أو حركته أكبر وأوضح. تخيل أيضا ما الذي سيحدث لو اصطدم جرمان سماويان ضخمان، كيف سيكون شكل التموجات الناشئة؟ بالتأكيد ستكون أكبر وأكثر وضوحاً.

بدأ ديفيد رايتز، المدير التنفيذي لمرصد الليزر المتداخل لموجات الجاذبية (Laser Interferometer Gravitational-wave Observatory ) ويعرف اختصارًا باسم ليغو “LIGO”، المؤتمر الصحفي بعبارة: “لقد قمنا برصد موجات الجاذبية، لقد فعلناها”.

هذا الإعلان جاء في أعقاب مرور قرن كامل من التكهنات، وبعد 50 عام من المحاولات والأخطاء، وبعد 25 عام من بناء وتجهيز الأدوات الحساسة، أخيراً تمكن العلماء رصد وجود تشوه في (الزمكان).

أضف إلى هذا أن العلماء تمكنوا من تحويل موجات الجاذبية هذه إلى صوت مسموع. نعم أصبح للعلماء القدرة على سماع الكون الآن.

 

ثقبان أسودان

وقد استطاع العلماء رصد موجات الجاذبية الناتجة عن تصادم ثقبين أسودين، هل يمكنك أن تتخيل موجات كبيرة وواضحة أكثر من الموجات الناتجة عن اصطدام أكبر الأجسام السماوية في الكتلة وربما الحجم أيضاً. الثقبان الأسودان: أحدهما يبلغ 35 مرة مثل كتلة شمسنا، والثقب الثاني أصغر قليلاً. العلماء تمكنوا من سماع اصطدام الثقبين الأسودين لمدة 20 مللي ثانية فقط. في البداية كان الثقبان يدوران حول بعضهما البعض بسرعة 30 دورة في الثانية الواحدة، هذا في المللي ثانية الأول، لكن في المللي ثانية رقم 20 وصلت سرعة الدوران إلى 250 دورة في الثانية ليحدث في وقتها الاصطدام، فيمتزج الثقبان، ويتكون ثقب واحد ضخم. في لحظة الاصطدام هذه انطلقت موجات جاذبية ضخمة عبرت كل شيء يقف أمامها: من مادة، وغبار كوني، ونجوم، ومادة مظلمة، ومجرات كاملة، لتصل هذه الموجات أخيرا إلى كوكب الأرض، حيث تم رصدها. وحتى يمكن رصد هذه الموجات احتاج العلماء إلى استخدام أداة وجهاز تم تركيبه خصيصا ليستطيع أن يرصد أي تغيير في المسافة بين نظامنا الشمسي وبين أقرب نجم لنا والذي يبعد 4 سنوات ضوئية، وحتى مقدار سمك شعرة الإنسان. وبعد أن قام العلماء بتشغيل هذا الجهاز فائق الحساسية منذ بضع أسابيع، فقد أخذ الجهاز 20 مللي ثانية فقط ليتمكن من رصد عملية اندماج الثقبين الأسودين.

المرعب والأكثر رعباً

المرعب هو أن هذين الثقبين يبعدان عن كوكب الأرض مسافة مليار و300 مليون سنة ضوئية، هل لك أن تتخيل أن عملية اندماج لثقبين أسودين تمت منذ مليار و300 مليون سنة لا تزال مواجات الجاذبية الخاصة بها تسير في الكون حتى تمكنت من الوصول إلى كوكب الأرض. بالتحديد ولمحبي الدقة، فإن هذين الثقبين يقعان في مكان ما في نصف السماء الجنوبي خلف سحابة ماجيلان الكبرى.

أما الأكثر رعباً فهو ما قاله البروفيسور ساثيابراكاش من جامعة كارديف للفيزياء والفضاء، أن الصدمة الناتجة عن اندماج هذين الثقبين الأسودين لفترة 20 مللي ثانية، قد تسببت في إطلاق المزيد من الطاقة أكبر من الطاقة الضوئية التي أطلقتها جميع النجوم في هذا الكون في هذا الوقت القصير جدا.

قد يتساءل البعض عن سبب تأخير الإعلان عن هذا الأمر طوال هذه الأسابيع؟ العلماء كعادتهم أرادوا التأكد مما حصلوا عليه من نتائج عبر مقارنتها بجميع برامج المحاكاة الحاسوبية المعقدة؛ للتأكد من أن ما حصلوا عليه من نتائج هو مطابق للقالب النظري.

كيف تم الرصد

وقد كشفت صحيفة الغارديان البريطانية عن طبيعة الجهاز المستخدم في رصد موجات الجاذبية بشكل مبسط جدا.

بشكل عام فإن نظام الرصد ليغو يعمل عبر إطلاق شعاع من الليزر الذي ينقسم لجزئين يسير كل منها في أنبوب مختلف يبلغ طول كل منهما 4 كيلومتر. في نهاية كل أنبوب توجد مرآة عاكسة تعم على عكس شعاع الليزر مرة أخرى وإرساله للمصدر، حيث يتواجد جاهز لرصد الأشعة المنعكسة.

الطبيعي أن الشعاع المطلق والشعاع المنعكس في كلا الأنبوبين على حدا ستتطابق قممهما وقيعانهما مما سيؤدي إلى أن يلاشي كل شعاع منعكس الشعاع المطلق.

لكن في حالة وجود موجات جاذبية، فإن هذه الموجات تتسبب في حدوث اهتزازات في الأنبوبين ينشأ عنه تغير في طول كلا الأنبوبين بحيث ينكمش أحدها في الوقت الذي يتمدد فيه الآخر طوال فترة مرور موجات الجاذبية. نتيجة لهذا فإن قمم وقيعان شعاع الليزر المنعكس وشعاع الليزر المطلق في كلا الأنبوبين لن يتطابقا، وسينتج عنه وجود فرق في المسير بينهما، وبالتالي لن يلاشيا بعضهما البعض.

يسهل بالتالي هنا حساب ورصد موجات الجاذبية.

ردود أفعال العلماء

قام العالم الفيزيائي الشهير “ستيفن هوكنغ” بتهنئة العلماء الذين تمكنوا من رصد أمواج الجاذبية على هذا الاكتشاف الرائع متوقعا إمكانية التوصل لعمليات رصد أخرى عديدة.

هوكنغ قال في تغريدة له: إنه من المثير أن أرى توقعات وتنبؤات قمت بها منذ 40 عام مثل منطقة الثقوب السوداء والنظريات التي تفردت بها خلال حياتي.

هوكنغ أشار إلى أن هذا الاكتشاف يعتبر أعظم اكتشاف في القرن.

 

وقال ألبيرتو فيشيو، الأستاذ بجامعة برمنغهام البريطانية، عن الحدث أنه “تحول في العلم”. فيشيو أضاف أنهم كعلماء كانت تعتمد ملاحظتهم للكون ورصدهم لما يجري فيه كانت تعتمد على الضوء، هذا الأمر كان يجعلهم يرصدون جزء مما يحدث في الكون.

العلماء استخدموا بالفعل الضوء المرئي والأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية وأشعة الراديو وأشعة إكس، وحتى أشعة غاما؛ في محاولاتهم لفهم آلية عمل وتكون النجوم ونشوء المجرات وتمدد الكون منذ الانفجار العظيم الذي تم قبل 13 مليار و800 مليون عام.

وأوضح أن موجات الجاذبية تحمل نوعا مختلفا تماما من المعلومات عن الظواهر التي تحدث في هذا الكون اللامتناهي. هذا الأمر أشبه بقيامنا بالاستماع إلى قناة تبث لنا ما يجري في هذا الكون من ظواهر لم نكن قد رأيناها من قبل.

ويصف فيشيو هذا الحدث بأنه أمر لا يصدق في العلم، ويمثل 3 ضربات بعصفور واحد في الفيزياء. الأول الرصد المباشر عن موجات الجاذبية، والثاني هو الكشف لأول مرة عن نظام ثقب أسود ثنائي، وأخيرا، إننا حصلنا على الدليل الأكثر قبولا وإقناعا أن الثقوب السوداء تمثل تلك الأجسام التي تنبأ أينشتاين بوجودها في نظريته النسبية.

إيرين ريان، الباحثة في جامعة ميريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية والعاملة بوكالة الفضاء الأمريكية ناسا، قامت بصناعة كعكة من أجل الاحتفال بالإعلان عن رصد موجات الجاذبية. الكعكة كان مكتوب عليها عبارة “هذه من أجل أول رصد مباشر لموجات الجاذبية”.

المفاجئ كان أن إيرين قامت بنشر صورة هذه الكعكة قبل 15 دقيقة تقريبا من موعد الإعلان الرسمي عن الاكتشاف الأضخم في القرن الحادي والعشرين.

ويأمل العلماء أن تمكنهم موجات الجاذبية من الإجابة عن أسئلة تتعلق، ليس فقط بحياة النجوم، ولكن أيضا عن وفاة النجوم عبر اصطدامها ببعضها البعض، أو فنائها في ثقب أسود، أو عبر السوبرنوفا.