«… احتدمت المعارك العنيفة وسط الركام والأطلال في كلّ شارع ومبنى ومصنع، في السلالم والأقبية. فشكلت البالوعات والمجاري متاهات في المعارك، الجنود الألمان أطلقوا على حرب المدن هذه والتي لم يروا مثيلا لها تعبير «حرب الفئران»، وعبّروا عن ذلك بسخرية: «احتلينا المطبخ لكن ما زال علينا أن نقاتل من أجل الغرف» ومع ذلك ورغم حصار دام ستة أشهر واستشهاد أكثر من مليوني مواطن ومقاتل إلا أنّ شعار المدافعين عن أسطورة الحرب العالمية الثانية مدينة ستالينعراد كان وبقي: «لا خطوة إلى الوراء!» و«لا توجد أرض وراء نهر الفولغا!»
غزة هي «ستالينغراد» فلسطين، غزة المحاصرة منذ عشر سنوات… غزة التي لا يمكن المقارنة بينها وبين ستالينغراد من حيث المساحة والديمغرافيا والإمكانيات، حفرت هي أيضاً أسطورتها الخاصة وكأنّ شعارها هو ذات الشعار»لا توجد أرض وراء غزة!»… فهو البحر غرباً والحصار جنوباً وشرقاً وشمالاً… لهذا «لا توجد أرض وراء غزة!»… غزة تتكّئ الآن على كتف شقيقتها ستالينغراد… وتحتفل بصمودها وبسالتها… لقد قاومت كما لم يقاوم أحد… كما دار القتال من بيت لبيت… ومن نفق لنفق… فوق الأرض وتحتها، لقد حوّلت أنقاض المنازل والمدارس إلى متاريس للمقاومة… بهذا وهكذا كتبت غزة فلسطين أسطورة صمودها… ولهذا يحق لها ولفلسطين أن تفرح وتحتفل.
ومع ذلك يبقى الفرح بطعم الحزن والدموع… فرح يتكّئ على بحر من دم ودموع ودمار… في لحظة الفرح البهيّ هذه لا تنسوا من رحل ومضى… أطفال لم يختبروا طفولتهم بعد… أطفال يعودون الآن فلا بيت ولا أمهات ولا آباء أو أخوات أو إخوة أو أصدقاء… لا تنسوا ذلك… أطفال دفنت ذكرياتهم بين الركام… لا قلم ولا دفتر ولا كتاب… لا تنسوا ذلك… أمّ أو أب لم يبق عندهما سوى ذكرى عائلة وأطفال خطفتهم قذيفة واحدة… لا تنسوا ذلك… لا تنسوا في غمرة الفرح أن تذهبوا أولاً إلى كلّ هؤلاء، عانقوهم وقبّلوا جباههم… كونوا معهم… حاولوا أن تكفكفوا دموعهم… حاولوا بكلّ ما أوتيتم من قوة ورهافة أن تكونوا لهم بعضاً ممن فقدوا…
في غمرة الفرح الحزين… تلمّ غزة وأهلها جراحهم… يبتسمون نعم… لكنها بسمة العزة التي لا تنسى الفقد الأليم… ففي نهاية النهار وأول الليل وعند الفجر ستكون آهات الألم ودموع الوداع الذي لم يتمّ… فلا تناموا قبل أن تطمئنوا على الأمهات والآباء والأطفال الذي فقدوا أحباءهم… ليكن الفرح إنسانياً وأخلاقياً ورحيماً كدمعة. هو فرح الصمود والبسالة… ومع ذلك لا يزال الموت يحيط بغزة، كما أنّ طائر الوعد لم يهبط في القدس بعد فلا زال يحلّق عند خط الأفق… إذن هو فرح على طريق الفرح العظيم… فلا تنسوا ذلك!
والمجد للشهداء والناس والمقاومة!