هل ما زال غسان قادرا على اثارة الدهشة؟

راديو موال : اسامة العيسة – في يوم 8/7/1972 نزل غسان كنفاني إلى مرآب منزله في بيروت واستعد لركوب سيارته واستعجل الطفلة لميس نجم ابنة شقيقته فائزة لتركب معه، وما أن شغل مفتاح السيارة حتى تطايرت شظايا، واستشهد اخذا معه لميس
كذكرى لا تنتهي، وإن كانت أليمة، من فائزة الأثيرة إلى قلبه ورفيقة معاناة اللجوء من فلسطين.
وكان اغتيال أديب لم يحمل السلاح يوما، مناسبة لنشطاء المقاومة الفلسطينية، للإشارة إلى أن الاغتيالات الإسرائيلية لا تفرق بين سياسي وعسكري وبين صاحب قلم وحامل بندقية.
أمّا بالنسبة للأدب الفلسطيني فانه كان خسارة لم تعوض كما اثبت كرور الأعوام فيما بعد، وكان غريبا لكثيرين لم يقتربوا من أدب غسان كنفاني كيف يمكن لأديب غارقا (لأذنيه) في العمل السياسي والحزبي والصحفي والتجاذب الايديولوجي أن يكتب ما كتبه بفنية عالية وسوية لم تتحكم بمصير أبطال يتحركون على الورق.
وفي حين انتهى غسان السياسي، فانه بقي الأديب الذي قدم رواية (عائد إلى حيفا) والتي يمكن توصيفها بأنها قصة طويلة يخبرنا غسان باسم شخصية الرواية الأول فقط بينما يشير إلى الاسم الثاني بأحد الحروف.
وهي تتحدث عن عودة سعيد وزوجته إلى حيفا التي تركاها عام 1948، بعد احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967، ويعودان ليس كما فعل الكثيرون، بعد أن وحد الاحتلال فلسطين الانتدابية من جديد للوقوف على أطلال المنازل التي تُركت، ولكن للبحث عن رضيعهما الذي تركاه، ليجداه (يهوديا) أصبح جنديا في الجيش الإسرائيلي، ليصل غسان إلى نتيجة أن الإنسان قضية واختيار، وليس عرقا، ولهذا سيكون مقدرا للابن المتروك الذي نشأ في أسرة يهودية مهاجرة إلى فلسطين أن يواجه ابن سعيد الفدائي الآخر..!
وكانت رواية صادمة على الأقل بالنسبة للفكر القومي الذي تبناه غسان كنفاني، من خلال نشاطه في حركة القوميين العرب، ورواية متميزة بمستواها الفني الملحوظ وخروجها عن أدب البكاء والندب على (أرض البرتقال الحزين).
وفي روايته هذه خطا غسان خطوة جريئة أخرى على الأقل بمفاهيم ذلك الوقت حين عرض لمأساة العائلة اليهودية التي استولت على منزل عائلة سعيد وعلى رضيعه الذي أضاعه وأصبح ابنها وابن دولة إسرائيل كجندي في جيشها، وأشار إلى معاناتها على يد النازيين.
وأثار ذلك نقاشا قسم كبير منه سياسي واقله حول الضرورة الفنية لذلك..!
وأقل أعماله شعبية هي اكثر عمل أثير لديه وهي رواية (ما تبقى لكم) والتي تأثر بها بشكل كبير برواية (الصخب والعنف) للأميركي صاحب نوبل وليم فوكنر.
أثرت رواية فوكنر على كنفاني بشكل كبير إلى درجة انه كان ينام ويصحو وهو متشبع بشخصيات الصخب والعنف، فجاءت (ما تبقى لكم) وكأنها محاكاة لرواية فوكنر الذائعة الصيت وذات الأسلوب الصعب.
والأمر مختلف مع رواية شهيرة له هي (رجال في الشمس) وتدور حول محاولة شخصيات الرواية الدخول إلى الكويت تهريبا عن طريق البصرة، فيموتون بسبب الحرارة في خزان سيارة المهرب الذي يتساءل عندما يكتشف موتهم (لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟) وهي العبارة التي أخذت أبعادا رمزية خصوصا في التراجيدية الفلسطينية المعاشة.
وحُولت الرواية إلى شريط سينمائي بتوقيع المصري توفيق صالح وإنتاج سوري، لم يكن له نفس حظ الرواية من الشهرة.
ورغم أن كنفاني اشتهر برواياته إلا أن له تجارب قصصية هامة ويمكن الإشارة هنا إلى مجموعته القصصية (موت سرير رقم 12)، وفيها يقترب إلى حد كبير من أوضاع الخليج العربي، ولا تعكس هذه المجموعة الصورة النمطية لناس الخليج، وتقدم نماذج مختلفة جدا عن بشر من لحم ودم وأحاسيس ومشاعر وغضب وكره وحب وفقر..!
ذهب مبكرا إلى الموت عن (36) عاما، وبقي أدبه الذي لا يكفي أن ينال اهتماما له طابع حزبي مما تبقى من رفاقه، بل يستحق اهتماما نقديا وأكاديميا مثل الدراسة التي كتبتها الدكتورة رضوى عاشور عنه بعنوان (الطريق إلى الخيمة الأخرى).
ولكنها كانت دراسة أولى عن تلك الروايات الأولى التي لم تفقد كثيرا دهشتها وقدرتها على اثارة التساؤلات