راديو موال _بقلم رامي شهاب_اخضر العينين وسيم، أحبته جميع القلوب ظناً أنه يوسف الصديق، ترعرع في بيئة الفقر التي كما العادة تخرج رجالاً أصحاب قيمة يفخر المجتمع بهم، ليس طويل القامة ولكنه ليس قصيراً كذلك، يمتلك جسماً رشيقاً، ويدين قويتين. كان صاحب العيون الخضر يقاوم شراسة الحياة بشراسة أعنف منها، يسير حافي القدمين في الحر والبرد، وحالة أقرب ما يكون للمتشردين فثيابه مهترئة على الدوام، هو خامس أخوته الأحد عشر كوكباً، ركلته الحياة كثيراً حتى أنها تمردت عليه وهو رضيع فحليب والدته لم يكن كافياً له، فأخذ يرضع من حليب ثلاثة من النسوة اللواتي لسن يقربنه في شيء، أعال عائلته حتى استوجب عليهم تقبيل يديه ولكنهم ما فعلوا، وبدأ تعاسته من أول رعوة لأغنام الحي فقد كان شوك المرعى يجرح جسده ويثقب قدميه على الدوام، وحتى طعامه الذي فرض عليه جلبه لنفسه وعائلته كبيرة العدد في أنفارها دون تواجد ثمن الطعام فكان مجبراً على الصيد ولكنه كان ماهراً يقتاد كل يوم بيومه من طيور السماء وحشاش الأرض، كبر ذاك الطفل وبدأ بالتجارة يبيع ما بين يديه من الثمار لأناس يبعدون عن مكان سكنه آلاف الأمتار مشياً على الأقدام، كل ذلك من صبي لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، رأى المخاطر أمامه وأصيب ببعض منها في عمله الجديد (البناء) بعيداً عن أهله، الذي قام بتعليمهم الواحد تلو الآخر وصولاً بهم للدراسات العليا.
ولم يعش طفولته كما الأطفال، فأراد نسيانها واستطاع ذلك عندما خطب محبوبته بعمر الثامنة عشرة من والدها دون علمها فهي لم تتجاوز سن التاسعة من عمرها، وكان ذلك الأمر تنفيذاً لوعدٍ من أبيها إذا ما قام الصبي الوسيم بفعل جريء بينهما، وهو الأكل مما يأكله العاملون في البناء فقد كان وسيمنا مصاباً بالاشمئزاز من أكل طعام ليس من صنع والدته، فوعده صاحب العمل – وكان والد الفتاة نفسها- من عقد قران الوسيم على ابنته إذا ما تذوق ذاك الطعام بوجود شهود قد صادقوا على الوعد ذاك الذي تم تنفيذه بعد زمن.
وتنقل من عمل لآخر حتى أصبح سائق محترفاً للحافلات الكبيرة، فاتجه للعمل في السياحة ولكنه أفقر من يعلم شيئاً عن ملامح البلاد، فهو لم يعرف الترفه يوماً، فقام بدراسة مادة الجغرافيا والتاريخ، ولم يستطع نسيان الطفولة رغم عمره الكبير وبرغم كل محاولته في نسيانها، فارتاد ملعب كرة القدم، تلك الكرة المستديرة التي كان امتلاكها حلماً في صغره باتت بين قدميه الآن ، فأصبح قائد الفريق لمدة أربعة عشر عاماً فقاد فريقه لأخذ المرتبة الأولى في بطولة السداسيات حينها، وفي عام ألف وتسعمئة وستة وتسعين كان لاعب الدفاع الأول في القدس، ولم يأخذ كرتاً أحمر طيلة مسيرته في الملعب فحصل على عشرين كأس وثلاثين درع مستحقات له وحده دون الفريق، وبعد كل حرمان الطفولة أعادت له الكرة حياته، فأصبح عمله يمكنه من المكوث في طبقة المتوسطين من الحال، وبعدها بنى منزلاً صغيراً لكنه جميل، فاعتزل اللعب وأخذ يطارد لقمة العيش، فقد أصبح يحتاج لوضع خطط المستقبل لأبنائه، ولكن المكوث المؤقت في تلك الحالة تبددت وجاء خبر لم يكن في الحسبان، تنفيذ هدم لمنزله الدافئ ذاك بأمر من بلدية الاحتلال عام ألفين وعشرة، فأقبل بعضهم يتهامسون هل سيقدم على هذا الفعل ؟
نعم لقد قبل به سيهدم شقاء العمر وسكنه الساتر له بيده، فما باليد حيلة وليس يملك من المال ستين ألف من الشواقل ثمن آليات الهدم الإسرائيلية إذا ما قاموا هم بإجراءات الهدم، فأمواله استنزفت في خدعة خدعوه بها وهي أن البيت لن يهدم إذا ما دفع الغرامات المفروضة عليه، فدفع ما يقارب الثمانين ألف من الشواقل الإسرائيلية في سبيل تصديقه لوعودهم الكاذبة ، بدأ من جديد وأخذ يقاوم ما ظن أنه انتهى أي مرحلة الصفر، فستر نفسه بالقليل جداً وعمل واجتهد حتى خرق قوانين الصبر والتفوق ولم ييأس البته، وقام بشراء أرض وبناء بيت كبير يتسع قلوب البشر أجمع ، ويواسي همومهم، فقد أصبح صاحب البنية العضلية القوية مصلحاً بين الناس يداري أوجاعهم ويحل مشاكلهم ومشاكل الجميع، يعطي السائل كل ما منع عنه في صغره، فذاع صيته الحسن وكرمه الكبير، حتى وشى عنه الواشون وقرصه اللاذعون سلبوا أرضه التي بجوار بيته فالوحش الإسرائيلي صادر الأرض وما بها، فتلك الأشجار التي يرعاها الصامد كأنها جزء منه بل طفل له، ذهبت ولن تعود ففي عام ألفين وثمانية عشر أصدرت بلدية الاحتلال أمراً بمصادرة تلك الأرض، ومخالفة صاحبها أضعافاً لثمنها، بحجة عدم مصادقته على الأم وتوقيعه على شهادة بيعها لهم ف(عمر) بذلك يعيق عمل الاحتلال.
وهذا هو عمر أحمد المعروف بأبي العنان البالغ من العمر تسعة وخمسين.