راديو موال_ بقلم: سنابل عمر _دخلتُ ذلك المنزل الشاحب وهو منزل يحيطه الجفاف يتواجد في منطقة تخلو من الأصوات وتشح بالناس، وهذه أمور أثارت الرعب بداخلي، ولكني تقدمت بخطوات بطيئة نحو الباب وطرقته ولكن لم يفتح أحد، فخلت أنه مهجور وسيحدث معي كما يحدث في أفلام الرعب، ثم طرقته مرة أخرى فسمعت صوت خطوات تسير نحوي وازدادت ضربات قلبي لمئة دقة في الثانية الواحدة، وفجأة صدر صوت صفير مزعج لا بل مؤلم للأعصاب، لقد كان صوت فتح الباب الصدأ البالي، ثم ظهرت من خلف الباب امرأة نحيلة الجسم، عيونها جوفاء، عظام وجنتيها بارزتين، وشفتيها لم تجري عليهما الماء منذ مدة، ترتدي رداء طويل رث يحمل البؤس والشقاء، وحذاء بالٍ أقرب ما يكون للجورب.
استقبلتني بابتسامة لا تحمل اللون الأبيض في ثغرها، ثم قالت بصوت يرتجف: أهلا وسهلاً، تتابعت الكلمات عما تعانيه المرأة من مشاكل حال دخولي لذاك المنزل، وحلُ مثل هذه المشاكل يجب أن يكون بسرعة ومن جذورها، فها هي قارورة جديدة قد كسرت، حتى قبل أن تكبر فمنذ الطفولة جلَدتها زوجة أبيها بالسوط، وطبقت عليها قصة ساندريلا المشهورة ولكن النهاية لم يكن فيها فردةُ حذاء تجلب الحظ، فزوجها لم يكن أمير البلاد أو نبيلها، بل قبْرها الذي خنقها بقوة وأحكم عليها قبضته، وكأنه الآمر الناهي، وما هي إلا عبدته المطيعة.
فأشرقتْ شمس زواجها من ذلك الوضيع من مغربها، وباتت المرأة التي تصفع في وضح النهار وتعنف آخر الليل وما بينهما جوع وحرمان وخيانة تلو أخرى، حتى أن ذله لها بات لا شيء في نظره، فقام برميها في هذا البيت الخرب، المكون من غرفة وحمام ومطبخ سقفه مثقوب يجري من فوقه ماء ملوث يحمل روث المواشي ويصب في منزلها من ذاك الثقب اللعين.
أخذنا فسحة مما أثقلته الكلمات علينا، وقامت لتحضر الماء الذي ما شربته خشية علمه بذلك، فيحاول قتلها من أجل كأس من الماء، فقد حرقها مرة بالزيت المغلي لأنها أسرفت وقامت بشراء قطعة من الملابس ثمنها لا يتجاوز الخمسين من الشواقل بالرغم من تيسر حاله المادي ، فهذه جريمة فظيعة لا بد أن تعاقب عليها تلك المسكينة، ويجب عليها المثول لبرنامج يحدده لها فالأكل ممنوع في بيته، إلا إذا قامت أمه بالمن عليها بطبق صغير من الطعام كوجبة واحدة في اليوم، ما ذنبها تلك التي تزوجت وحشاً بعمر السادسة عشر، أقصد وحوشاً فلا خصوصية في حياتها فلم ينطق أهل زوجها بكلمة حق واحدة، فقد تكالبت عليها الوحوش الضارية، وفي تسلسل ذلك البرنامج ذكرت قارورة في مشهد يصعب على الكثير الشعور به وذلك عندما أهدتها أختها رداءً جميلاً وأرادت كلمة حب من زوجها، فسألته عن رأيه في ذلك الثوب، فاقترب منها وقال: “الحذاء يبقى حذاءً ولو وضع به الذهب”، ثم انهال بالضرب المبرح على وجهها حتى أسال الدماء من فمها وأنفها، وهنا أجزم بأنها تعلم خصائص الدم أكثر من المتخصصين به طبياً، فهي تتحسسه يومياً وتمسحه عن الأرض بملابسها .
وما أن خرجتُ من منزل السيدة قارورة والتي تحمل الكثير من الكلام الذي لست أستطيع البوح به، حتى استدللت على قصة أخرى مشابه لها وبالصدفة كانت تحمل الاسم نفسه، وذلك عندما جلست في سيارتي، وهنا رن هاتفي وكان عدد من القوارير قد بلغهن نبأ رغبتي في سماع قصص اضطهاد حقيقية.
فتحت الهاتف، وقالت المتحدثة: مرحباً
قلت لها : أهلاً وسهلاً
قالت : أريد أن أتحدث إليك. فسمحت بذلك .
فأتبعت : أنا فتاة يتيمة حرقوا منزلي فمات أهلي أمي وأبي وأختي وأخي وبقيت أنا، عشت في بيت عمي وأرغمني بالزواج من شاب غريب عن قريتنا، رأتني أمه في الحافلة وجاءت خاطبة لي فوافق عمي، توسلت إليه وبكيت إليه، جثوت عند قدميه، ولكنه انهال عليّ بالشتائم وسب الذات الإلهية، كان يريد أن يتخلص مني، وبت ليلي باكية أنادي على أمي .
حتى جاء موعد العرس عدت أبكي ألا يفعل إلا أنه أتم زواجي، كنت فتاة جميلة جداً ومتعلمة وأجيد أكثر من لغة، وكان زوجي قبيح المنظر، سيء الخلق، رديء التعامل، واكتشفت بعد زواجي أنه مدمن وتعرض للسجن أكثر من مرة بعدة قضايا غير أخلاقية، أخذني وأسكنني بعيداً فلا أزور ولا أزار، وفي إحدى الليالي قال لي : سأخرج للعمل و سأغلق الباب بالمفتاح نامي أنتِ. فاعتمدت كلامه وسمعت صوت الباب لما أغلقه، وكانت الساعة بعد منتصف الليل حين استيقظت لأشرب الماء، فسمعت صوت شيء يسقط من السدة -وهي مكان للخزين في أعلى المنزل- ويرتطم بالأرض ففزعت خوفاً وذعراً لما رأيت رجلاً في الصالة كماردٍ أسود خرج من فانوس علاء، وأخذت بالصراخ حتى أضاء النور فوجدته زوجي، فقلت له : ماذا تفعل فوق السدة ؟ فقال : أنا لم أذهب إلى العمل. نعم، لقد كان كذاباً شكاكاً خواناً، أوهمني أنه خرج من البيت بينما هو مختبئ ليعرف كيف أفعل في البيت وأنا وحدي، ووجدت من بخله وصفاته الرديئة ما لا تحتمله امرأة، كان يسرق كل شيء أضعه في خزانتي ثم ينكر ذلك.
أغلقت الهاتف، وكنت حينها قد وصلت غرفة باردة، سرير مرضى وجسد مقرفص، ووجه شاحب وعيون غائرة وعظام فك بارزة بالكاد تستطيع الحراك، لسان ثقيل لا يكاد يبين، وجسم تغشاه العجز كأنه مشرد من جنوب إفريقيا. وصلت إلى حافة السرير وفي كل خطوة كان يقشعر بدني، فبدت لي اللوحة لاذعة مؤلمة لا يقدر على وصفها قلم، حتى الأطباء عجزوا عن التشخيص وأقروا بأنها تستطيع الحراك ولكنها هي لا تستطيع ذلك، إنها حالة عجيبة لحب قتل صاحبه رغم ظلم محبوبه واضطهاده لمن أحبه منذ واحد وعشرين عاماً.
هي فتاة ثلاثينيّة، خضراء العينين، متوردة الخدين، صحيحة البدن، قويمة البنية، جميلة المبسم، رائعة المنطوق، فصيحة اللسان، تزوجتْ وأنجبت ثلاثة من الأولاد، وبعد عشرة أعوام حدث شيء غريب لقد ذهبتْ إلى زيارة أهلها ثم عادت لبيتها، وصعدت درجات منزلها الداخلية وكانت ثلاث درجات فقط، صعدت الأولى وارتقت للثانية ثم سقطت على الثالثة، ولم تنهض بعدها أبداً، فكانت آخر مرة تصعد وآخر مرة تسقط، وفوجئتْ حينها بزوجها التي توقعت منه أن ينهضها يقول لها: “لا أريدك زوجة لي أنتِ طالق”، فأصيبت بصدمة فوق الكسرة، ثم نقلت لمنزل أهلها، وحرمت من أطفالها، وأصبحت قعيدة ذاك الذاك السرير في تلك الغرفة الباردة، تنتظر أن يرق قلب حبيبها ويعيدها إليه، ولكن هيهات، فهي رغم ظلمه لها على مدى السنوات إلا أنها ما زالت تردد اسمه.
وبُرر الطلاق كما قيل لي أن سحراً قد سُكب على الأعتاب ولقد أخفيت الحقيقة في بلاد العالم الآخر.
انتهيت من سماع أصوات تكسر القوارير، فجلست وبالكاد التقط أنفاسي وما زال هاتفي يرن ….
فرفقاً بالقوارير.