“مصيدة أيلول” قصة قصيرة

راديو موال_ بقلم _ مرام الشيخ _ لوحةٌ فنيةٌ بديعيةٌ أودعها الله في بحري الجميل، هو بحرُ غزةَ،أكثرُ ما يشدّنا فيه أنا وأشقائي الآخرين منظر الغروب فيه عندما تصافحه الشمسُ بأمواجه الزرقاء، وطيور النورس العائدةِ إلى أعشاشها وقد عادت فرحةً بما جنته من طعامٍ لصغارها.

اعتدتُ أنا وحسن ومحمود أن نختلس بعضاً من اللحظات على شاطئه بعد رحلة صيدنا الميمونةِ الشّاقة بالركض واللعب، وما أن ينتابنا التعب من ضحكاتنا حتى نستلقي عليه، ويبحر كلٌّ منا في أحلامه بعيداً.

أنا : سأكملُ تعليمي وأصبحُ طبيباً أعالجُ الفقراء في مخيّمنا، أمّا محمود:

فقد كان يتمنى أن يصبح محاميّاً، وأمّا حسن فقد كان يطمحُ أن يصبح جنديّاً يحمي الحدود، تلك كانت أحلامنا التي طالما أودعناها لأمّنا الحنونة.

مع أولِ شعاعِ شمسٍ من كلّ صباحٍ يأمل فيه الكادحون سدَّ رمق عائلاتهم، فإذ بوالدتنا تعدُّ لنا فطورنا المتواضع الذي لا يتعدّى كونه رغيفاً أو رغيفين من الخبز مع قليلٍ من الزيت والزعتر وكأسٍ من الشاي، نتناولهُ على أرضية المطبخ، ونغوص بأعينٍ أنهكتها مشاق الأمس، وننصت لأفواهٍ هامسةٍ لقولٍ مفاده:” لعلّ الغد أفضل” لتدّق ساعة العمل معلنةً انتهاء وقت العائلة فما لبثت أمي إلا أن أخذتنا بحضنٍ دافئ ٍيمدّنا بالأمل والتفاؤل، وإلى جانبها أبي الذي تخلل المرض جسده الضعيف، محدقاً بنا، مترائياً له شبح الموت يحوم حولنا، فنحن ذاهبون إلى خط الموت.

بينما تجلس أمي أمام البيت قُبَيل الغروب ترقب بلهفةٍ رجوعنا من الصيد، وقلبها يدّق مضطرباً من خوف الفقد، فإذا بنا نعود بوجوهٍ شاحبةٍ، وبعيونٍ تفيض بالسعادة العارمة، لا لشيءٍ سوى أننا استطعنا في هذه المرّة أن نحرز نصيباً وافراً من الأسماك بخلاف باقي الأيام.

” أمي هذه بعض الأسماك وقليلٌ من الخضراوات، أعديها لنا على العشاء، أبي هذا دواؤك الذي لم نستطع شراءه لك رغم وصفه من الطبيب قبل عدّة أيام.” هذا ما قاله محمودٌ لوالديّ.
وما إن تناول الجميع العشاء حتى مضى الليل مسرعاً، وشقّ صباح يوم الجمعة الخامس والعشرين من أيلول لعام ألفين وعشرين طريقه، خرجت أنا وأخوتي الساعة السادسة صباحاً، ركبنا ثلاثتنا بحر غزة بمركبٍ صغيرٍ تلاطمه الأمواج والهموم قاصدين رزقنا، والرزق اليوم لم يعد وفيراً، لكن رزقنا في السماء وما نُوعَدُ حتى ضاق علينا البحر بوسعه، ولم نسمع سوى صوت رصاصات الغدر تأتينا من كل حدبٍ وصوبٍ، وعاد حسن ومحمود جثتين هامدثين فيما جُرِحتُ وبقيت أسيراً في سجون مصر أكابد مرارة السجن دون تحرك من أيّ طرفٍ عربيّ شريفٍ ينظر في قضيتي لا لذنبٍ غير أني بحثتُ جاهداً عن رزق عائلتي.

لكنَّ المفاجأة كانت عندما عَلِم والدايّ أنَّ رصاصاتِ أخوتهم في الدّين والعروبة من الجيش المصري هي من اغتالت أبناءهم، وأنَّ القاتل ليس العدو الصهيوني، فليس البحر وحده الغدّار، فالقاربُ عاد فارغاً من أصحابه، وشباك الصيد ملطخةٌ بالدماء، ففي كلّ خيطٍ من خيوطها ذكرى من ذكرانا، هاقد صُبِغت دماؤنا عليها للأبد؛ لتبقى دليلاً شاهداً على وحشية ٍلطالما حلمنا بزوالها.