راديو موال – بثينة حمدان – هو ليس عالم ذرة لكنه خريج قسم الكيمياء، ليس فنانًا لكنه أحد أعضاء ومؤسسي فرقة جفرا للفنون الشعبية، لم يخطط للعودة إلى الوطن لكنه عاد وغامر بالبقاء إلى أن حصل على الهوية. خلطة عجيبة لا تنتجها معادلة كيمياء عادية، هو فراس عوض صديق لـ “أعداء مهنته” قبل الحلفاء والزبائن، يمتلك الذاكرة وفن إدارة الوقت.. و”عيب” واحد يتمثل بـ “الطاقة المفرطة”.. طاقة الأمل التي جعلته أحد الرائدين في صناعة الدعاية والإعلان في بلدنا منتصف التسعينيات، صاحب “البعد الثالث” في استقطابه وإبهاره الجمهور عبر أفكاره في عالم الدعاية والإعلان على مدى أكثر من عشرين عامًا، في عهده يصبح الاقتران بشركة عالمية ممكنًا، وترتفع الأرباح إلى رقم من ستة أصفار دولار. الشاب المقدسي ابن قرية بيت صفافا، مواليد الكويت عام 1966، خلطة فريدة مع مرتبة شرف فعلية وبإجماع المنافسين والزبائن!
عائلة عادية بأسرّة من طابقين
هو الابن الثالث بعد شقيقتين لعلي عوض المحاسب في وزارة العدل الكويتية والذي سافر في الخمسينيات للعمل فيها، التحقت والدته المقدسية بزوجها وقضت سني الأمومة الأولى ربة بيت ثم عملت في التعليم وأصبحت مديرة مدرسة. يلي فراس أخوان يصغره الأول بسبعة عشر عامًا وهو فارق علّمه مبكرًا احساس الأبوة لأخوين نظرا إليه كنموذج يحتذى به، فتأثر به أخوه معتز ودرس الموسيقى ورافقه في كل حفلاته. نشأ في منزل مكون من غرفتين لا يتسع إلا لأسِرّةٌ من طابقين، والوالد يعمل بوظيفتين، ولم يكد وضع العائلة يتحسن عندما انخرط الوالد ببعض الأعمال الحرة، إلا أن حرب الخليج سحبت كل هذه الامتيازات ورحلت العائلة وبحوزتها مكافأة نهاية الخدمة.
امرأة من ضوء مقدس
فراس اليوم وقد بلغ الخمسين من عمره، “بكامل النقصان” بنجاحاته واخفاقاته، بتفاصيله التي ليست إلا نورًا شحيحًا من ضوء أجمل، برائحة الزيت المقدس، وعطاء فردوسي اللون والمشهد، والدته “حنان” الاسم والمعنى في تبديدها عتمته، وفي انتظارها له عائدًا من غفوة وهفوة الشباب آخر الليل، في سعادتها وهي تراقب صحوته لإنجاز مواعيده بدقة، في تأملها اليومي لطفل يكبر مهتمًا بوسامته ومظهره والعطر المجنون الذي ينتشر خلال ثوان في البيت قبل أن يخرج المراهق العنيد والمتمرد إلى “اللامكان”. قرأ والداه مبكرًا أن لهذا الطفل عالمه، ولا فائدة من المجابهة والمحاربة. وربما لأن فراس بهذه الصفات المُرهِقة عادة للأهل بنتائجها غير المضمونة إجمالاً، لكنها أصابت معه، ولأنه عرف بعد أن صار أبًا الثمن الذي احتمله والداه متفهمين احتياجاته في أن يكون ما يريد، ثمنًا من القلق والانتظار والرغبة الشديدة في الاطمئنان على ولد “طاش” كثيرًا وقد اعترف لي قائلاً: “شيبت أبوي”. والده الذي كان عماد تربيته لأبنائه يتمثل في مقولته: “لا أحد يصنعك”. لهذه الأسباب فإن والديه في مكانة مقدسة، ووالدته هي الضوء الذي أطلق فراس!
الطفل.. المهاجم والأنيق
الطفل “الدينامو” كما لقبه شادي شمشوم مدير شركة v&V، و”القنبلة الموقوتة” والعاصفة القادمة الممتلئة بالابداع، لم يكتف بهواية واحدة، أغرم بكرة القدم فخاضها مهاجمًا، وهو اليوم عاشق مخلص، ومشاهد شرس يشجع فريق الملوك “ريال مدريد”، كما انضم إلى الكشافة وشارك بمخيماتها مساعدًا للقائد الذي منحه هذه المكانة بحكم الصداقة طبعًا، أشرف المساعد الصغير على الطابور الصباحي، رفع العلم يوميًّا ويضرب السلام بحسم أمام الجميع قبل أن تنطلق المجموعته في مهمتها. عمل أثناء العطلة الصيفية وبعد دوام المدرسة صبيًا في ورشات الدهان والبناء، وصرف المقابل المادي الزهيد طبعًا في شراء ملابس جديدة والحذاء الرياضي، وكأنه بدأ يرسم صورته الأنيقة لمهنة المستقبل.
الفلسطيني الـ “كح”.. والتعليم “نص كم”
يسير يوميًّا وأصدقاؤه إلى مدرسته القريبة، يستعيد دومًا مشاهد لأستاذ الفيزياء في الصف: كيف يتحرك ويسير بين المقاعد ولهجته الفلسطينية الفلاحة “الكح”. رغم جنون المراهقة والشباب إلا أنه كان في الابتدائية طفلاً هادئًا ومجتهدًا من الأوائل، تخرج من مدرسة الحريري الثانوية، ويبدو أن وجوده في مدارس بلا إناث كان له أثرٌ ما، فحين سألته عن وجود صبايا في صفه أجاب بسخرية: “حكولي الروضة كانت مختلطة!”. أدرك مبكرًا أن عليه عدم تفريغ طاقته في التعليم مع إيمانه بأهمية الشهادة سُلّمًا للوصول، فيحتفظ بهذه الطاقة لحياته المهنية وجنون الشباب، كان القرار حاسمًا بأن يعيش شبابه بالطول والعرض والارتفاع، تحولت حياته وشخصيته في الثانوية وسار نحو هدف إثر هوسه بالفنون والفلكلور الفلسطيني فبدأ بتأسيس فرقة فنية.
“مشعل” السبب في “جفرا”
زيارتان مع والده إلى فلسطين وحديث المغتربين عن الوطن الجريح، سهّلت اقتران هوسه الموسيقي بالفنون الشعبية فأسس وزملاؤه فرقة جفرا عام 1982 لكن بطابع وآلات غربية، فراس هو المطرب وهاني الحنبلي عازف الأورغ وآخرون. لم يخطط للعودة لكن صوته كان يصدح بذلك متميزًا بأداء أغاني فرقة العاشقين، و”أناديكم” لأحمد قعبور، وعدا عن ذلك كان فيروزي الصباح وحليم الهوى، والحب عنده “يوم وليلة” يطربه ببراعة صوت وردة الجزائرية. وشكل عام 1986 نقطة تحول للفرقة، بعد مشاهدته ألبوم “مشعل” للفنون الشعبية مرات ومرات، أخذه العمل بجماليته مسببًا له “صدمة موسيقية” أثرت في رؤية الفرقة والتي تحولت إلى فرقة جفرا للفنون الشعبية بآلات شرقية وفرقة دبكة وكانت النسخة طبق الأصل والرائعة من فرقة الفنون، وتولت إدارتها جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في الكويت وقدمت عروضًا في أنحاء الكويت والأردن والعراق وفرنسا.
“الحب”.. قصص لا تنتهي
كان حبه الأول في المرحلة الثانوية، أحب بنت الجيران؛ نظرات من بعيد واستعراض أمام الشباب أن له فتاة تخصه، والاستيقاظ باكرًا ليراها تركب باص المدرسة، ورسالة واحدة منها يحظر الرد عليها، قبل أن تنتهي “العلاقة” برحيلها من الحي، ثم تبدأ قصة أخرى. ضحك كثيرًا حين قال لي إنه كان في قمة “غروره” حين يسير بالزي الكشفي وغطاء الرأس والذي يمنحه شعورًا بأنه طيار وهي مرتبة أعلى بكثير من فارس أحلام الفتيات! وفي الجامعة كان محبوبًا، يجيد فن حب وصداقة المرأة قبل الرجل، لكن إحداهن بدت أكثر ذكاء منه، فقابلت جاذبيته بالتجاهل، ورفضت محاولته الأولى في تطوير العلاقة، ما أغضب احساسه بأنه “طيار”، وكان رده التجاهل المضاعف بدلاً من ملاحقتها كما يفعل الشبان، استسلمت في النهاية فكسب المعركة وقلب صفحة التحدي آنذاك واليوم يقول: “كله هبل” ويضيف “لقد استفدت من كل هذه التجارب وكلهن أثرن بي”.
من “فلسفة الصدفة”.. إلى “كيمياء” التخطيط
التحق فراس بالفرع العلمي لأنه ينتمي لعائلة متفوقين يتوقع أن يكونوا أطباء أو مهندسين فقط، حصل على 70% في الثانوية العامة، فتجددت معاناة الأهل مع الشاب المتمرد والأقل اهتمامًا بالدراسة بين اخوته المنضبطين، لكنه كان أنشطهم. حصل على قبول في جامعة الكويت عام 1984 في كلية الآداب قسم الفلسفة، وهناك تعرف على صديقه داود جبر، ومعًا بدأا رحلة “غير شكل” من جلسات “طلاب مش سائلين” ومنها جلسة للتخطيط لاختيار الكلية الأنسب لهما، فكر فراس أنهما بحاجة للانتقال إلى تخصص غير مرغوب من الطلبة، وفعلاً تم قبولهما بسهولة في تخصص الكيمياء، وبدأت مغامرة جديدة وشاع في التخصص انضمام “اثنين خالصين” لكلية العلوم.
“خالصين” في قسم النابغين
اتسمت سنوات دراسته وداود الجامعية بـ “الهروب” من المحاضرات والمختبرات التي تمتد لساعات، لكنهما وباجتهاد “خبيث” يسجلون بمجموعات العمل في المختبر ثم ينسحبون من العمل، في “استغلال” واضح لطالبات التخصص المتدينات الخجولات اللواتي لم يكن يسألن عن شابين “طائشين” ويقمن بكامل المهمة عن طيب خاطر! وصل الأمر بإدارة الكلية باستدعائهما واحتمال رسوبهما، لكن فراس يتابع “تعلمنا قضاء الوقت في المقاهي وتدخين معسل الزغلول، ولعب الورق، والاشتراك بحفلات الجامعة وقصص الحب”، لم لا وهو المحترف في تقديم نفسه للجنس الآخر وهذه خاصية أخرى مهمة لمشروع رجل إعلانات مستقبلي، بل كان شخصًا بارزًا في “شلل” الجامعة ومعروف بنشاطه الطلابي والنقابي. وكان الفصل الأخير هو الوحيد الذي قرر فيه أن يدرس ليتخرج بتقدير “جيد” والشكر موصول لكل الصبايا!
“التذوق” سر البداية
طالب الكيمياء شكلاً والفنان قلبًا ومحبوب “الشعب” في الجامعة، كان لديه الوقت “الكافي” ليقبل عرض صديق بالعمل قبل التخرج بعام في حملات التذوق مع مجمعات السلطان. لاحظت الشركة زيادة البيع في النقاط التي يتنقل فيها فراس وما أن تخرج عام 1989 كانت الوظيفة بانتظاره وأصبح مسؤولاً عن نقاط التذوق، وبرع في كسر الجسور مع الآخر أيًّا كان.
بائع الأدوية.. والعودة للفنون
بدأت حرب الخليج عام 1990 فتوقف كل شيء في حياته وسافر لعمان لاستئجار وتجهيز منزل للعائلة، ثم عاد إلى الكويت والتي تلوثت مبانيها بغبار الحرب، عمل في تنظيف المباني وأصبح وصديقه داود مقاولين مسؤولين عن عشرات الشباب، إلى أن قرر الالتحاق بعائلته في الأردن التي عاش فيها أربع سنوات. وفيها حصل محظوظًا وخلال شهر على عمل في أحد مصانع الأدوية، متجولاً بسيارته التي أحضرها من الكويت في أحياء عمان الشرقية لبيع دواء المصنع، ارتفعت المبيعات في هذه الأحياء ثم فانتقل إلى عمان الغربية ومدن أخرى.
لقاء العمالقة.. لقاء فلسطين
أعاد تأسيس فرقة جفرا عام 1994 والتي شاركت بمهرجانات أردنية، إلى أن تلقت الفرقة دعوة للمشاركة في مهرجان ليالي بيرزيت، وكان يومه الأول في فلسطين هو السابع عشر من حزيران 1996، لم يستطع وصف مشاعره واستوطن بداخله قرار البقاء فيها وبغيابه توقفت الفرقة، قابل العمالقة الذين شكلوا إلهامه وكل اسباب ابداعه، وهم أعضاء فرقة الفنون الشعبية والذي كانوا شغوفين بلقاء الفرقة التي ذاع صيتها باستنساخ فنهم الراقي. عمل في مطعم “كان باتا زمان” لمدة سبعة شهور، ثم نجح بأن يكون أول موظف في شركة سكاي للدعاية والإعلان بإدارتها المصرية ومديرها العام والشريك طارق عباس آنذاك.
ابداع يلامس حدود السماء
مع “سكاي” جاب مدن الضفة وغزة وتواصل مع المؤسسات الحكومية والأهلية مستفيدًا من خبرة الشريك المصري، ويؤمن فراس ونظراؤه في هذا الحقل بفضل سكاي في ترسيخ بصمة مميزة والتي أسست لها شركتي الناشر والعربي مطلع التسعينيات في فلسطين. قضى أحد عشر عامًا فيها وغادر بعد أن اصبح نائبًا للمدير العام، وفي عام 2007 ترأس شركة زووم وفيها كانت المساحة أكبر، وأسس لعلاقة شراكة متكاملة مع الزبون، ومن أبرز أفكاره ربما إعلان المفروشات ثلاثي الأبعاد على جدار سرية رام الله، والريادة في اقتحام الدعاية الرقمية، وفي عام 2012 أصبحت زووم أول شركة فلسطينية بشراكة أجنبية ممثلة بشركةPublicis الثالثة على مستوى العالم، عدا عن أنه جعلها إحدى ثلاث أو أربع شركات دعائية رائدة في البلد.
ماذا قال أصدقاء/ أعداء المهنة؟
لم تعرف الدموع طريقها إلى حياته إلا مع تقدمه في العمر وتحوله من شاب مراهق فطائش فمغامر فطَموح وناجح إلى أب لقمرين، مشاهد كثيرة تطلق دموعه، هو عصبي وأحيانًا عاطفي ورومانسي، ومولع بالتفاصيل كما يؤكد شادي شمشوم، وأحيانًا صخرة قاسية بلا إحساس، ورغم أنهما بالعمر نفسه، إلا أن طارق عباس مسؤوله السابق في العمل وصديقه ومنافسه الحالي يعتبره “الطفل المدلل” وأجمع شادي وطارق، وصديقه وليد عاليًا بل وثائرة كراجة مديرة قسم التسويق في بنك القاهرة عمان على أن فراس هو المحبوب الذي لا خلاف عليه ولا يغضب منه أحد، والغريب أن نحافة فراس الجسدية لا تنفي تناوله ثلاث وجبات من الهمبرغر في آن.
أثره الباقي.. وطموحه القادم
كانت النساء في حياته رافعة نجاحه؛ والدته واخواته اللواتي يفتخرن به، شعبيته في الجامعة والعمل، تلك التي بادلته الحب وأخرى لم تفعل، الطالبات اللواتي كن سببًا في اجتيازه الكيمياء.. وطبعًا بناته جنّة وليلى، وهن “أثره الباقي” كما يقول، والذي يمارس عليهن المتابعة والاهتمام والقلق والشغف الذي مارسته كل بنات “حواء” عليه، وكانت “علقته” معهن خاتمة رائعة للعاشق فراس.. أمله الشخصي المحافظة على أثره المتجسد فيهن، وطموحه المهني.. يحمل مفاجأة بمشروع جديد في مجاله طبعًا، لم لا وهو صاحب خلطة “الكيمياء التسويقية” الساحرة. وليد عاليا (صاحب مطبعة): فراس هو “النمس” المحبوب! شادي شمشوم (مدير V&V): هو الدينامو الذي لا يختلف عليه أحد طارق عباس (رئيس مجلس إدارة سكاي): “المُرضي” للجميع والابن المحبوب ثائرة كراجة (مديرة قسم التسويق والخدمات بنك القاهرة عمان): علّم موظفيه الانتماء للزبون أولاً وأخيرًا