راديو موال : مطلع العام الجاري، صدر قرار من أحد القضاة العشائريين بالحكم على شاب بقطع لسانه بعد تحرشه اللفظي بفتاة. حكم استبدله القاضي نفسه بعدما دفع المتحرش مبلغ 40 ألف دينار أردني ومصادرة سيارته.
لا يعد هذا الخبر استثنائياً في الأردن. فقبل نحو 3 أعوام، أصدر قاضي عشائري حكماًً بقطع لسان أحد أعضاء مجلس النواب، يدعى محمد الدوايمة بعد أن تعدى لفظياً على زميلته هند الفايز. ولم يتم حل الإشكالية إلا بعد تدخل رئيس مجلس الأعيان حينها طاهر المصري.
ومع أن القانون العشائري أُلغي في الأردن سنة 1976، لا يزال حاضراً وبقوة على الصعيد الاجتماعي، وتحديداً في الجرائم الواقعة على الأرواح والعرض. هذا الحضور يبرره خبراء “بطبيعة المجتمع الأردني الذي تعد العشائر مكوناً أساسياً فيه، إلى جانب دعم الدولة لهذه المنظومة العشائرية، باعتبارها مساعدة للدولة على حل المشاكل والحفاظ على الأمن المجتمعي”.
وفي هذا السياق، يقول القاضي العشائري بركات الزهير: “عام 1976، أصدر رئيس الوزراء أحمد عبيدات قراراً بإلغاء جميع القوانين والأعراف العشائرية. عقب القرار، تم عقد اجتماع شمل كل أطياف المجتمع الأردني في الديوان الملكي لتصدر وثيقة في الثمانينيات تنص على إبقاء الأعراف العشائرية في قضايا القتل المتعمد والعرض والشرف، وتقطيع الوجه وحرمة المنازل، وعممت حينذاك الوثيقة على الحكام الإداريين”.
ويضيف: “بعيداً عن الأوراق والوثائق، فإن المجتمع الأردني عشائري لم يتخلَ عن عاداته وتقاليده، حتى في الإجراءات المدنية من قبل المحاكم والمراكز الأمنية، إذ ما تزال العادات العشائرية جزءاً منها، وغالباً تطلب ورقة العطوة العشائرية وورقة الصلح العشائري في حالات إسقاط الحق الشخصي”.
وحول بعض العقوبات التي يتضمنها القانون العشائري، وتبدو صادمة كحكم “قطع اللسان”، يوضح الزهير: “لم يحدث أن تم قطع لسان شخص تطبيقاً لحكم عشائري. فهذا المصطلح أقرب لأن يكون مجازياً أكثر منه حقيقياً”.
ويضيف أن “القانون العشائري سابق لتأسيس الدولة الأردنية. في الماضي، عندما كان يختلف طرفان كانا يلجآن إلى قاض عشائري لحل الخلاف. مثلاً في القضايا، التي يكون طرف فيها أهان الطرف الآخر لفظياً أو تحرش لفظياً بامرأة أو تطاول على محارم أحدهم بالذم، ونتيجة لعدم وجود سجون في الماضي كان يحكم القاضي بالتغريم”.
ويشير إلى أن “مفهوم التغريم يعني أن يحكم القاضي بقطع لسان المعتدي، وأن يكون على المعتدي شراء لسانه مقابل مبلغ مالي، أي تغريمه مبلغاً مالياً مقابل الحفاظ على اللسان، وهنا يطلب المتضرر مبلغاً مالياً معيناً ويتم التفاوض لحين الاتفاق على سعر معين”.
وحول سبب الاستمرار في هذه العادة إلى الآن، يقول: “لغاية الآن يحظى القضاء العشائري باحترام المجتمع خصوصاً في قضايا كالعرض، لكن القاضي العشائري ليس لديه صلاحية الحبس، لذلك فإن البديل المتاح هو التغريم”.
بالمقابل، لا تقتصر أحكام القضاء العشائري على قضايا كقطع للسان، بل تمتد لقضايا أكثر تعقيداً، كالمتعلقة بجرائم القتل، وما يتبعها عادة من اتفاقات عشائرية على إعدام الجاني حتى قبل خضوعه للمحاكمة.
مطلع العام الجاري أيضاً، شهدت مدينة الكرك جنوب الأردن، عطوة عشائرية ضخمة ترأسها وزير التربية والتعليم محمد ذنيبات، لحل إشكالية وقعت في المدنية عقب قيام شاب بقتل شخص من عشيرة أخرى.
خرجت العطوة بقرارات لاقت رفضاً كبيراً من قبل ناشطين في حقوق الإنسان، لما اعتبروا أنّها تتضمن ظلماً بحق الجاني وعائلته، إذ تضمنت شروطاً بإعدام الجاني في المكان نفسه وبالسلاح الذي قُتلت به الضحية. وتعهد والد الجاني عدم تعيين محامٍ لابنه في المحكمة، إلى جانب قرار بإجلاء أقارب الجاني حتى الجد الثامن إلى مدينة مجاورة.
يقر الزهير أن “الجلوة ما تزال المشكلة الأكبر في هذه الحالات. حالياً يوجد جهود لقصرها على أقارب الجاني من الدرجة الأولى، وأن لا تستمر لأكثر من عام، نأمل أن يتم التطبيق قريباً، لوقف معاناة الأبرياء”.
ويتابع: “في جوانب أخرى من بنود العطوات وشروطها، فإنها تكون شروط غير قابلة للتطبيق وحتى مخالفة للقانون المدني”. ويوضح أن “بعض الشروط في العطوات ليست سوى محاولة تطيب خاطر أهل الضحية، لكن ليس لها أي تأثير على أرض الواقع. فهذه الجرائم يبتها القضاء المدني عبر محكمة الجنايات”. ويكمل: “قانون العقوبات يشترط تعيين محامٍ في القضايا التي تكون عقوبتها الإعدام، كما أن القضاء لا يستجيب لمطالب الإعدام وشروطها لناحية المكان والأداة”.
وتقول المديرة التنفيذية لمركز العدل للمساعدة القانونية هديل عبد العزيز: “لا يوجد قيمة قانونية للقرارات العشائرية في القضايا التي تتعامل معها محكمة الجنايات، فحتى لو نصت العطوة على إعدام الجاني، فهذا القرار ليس ملزماً للقاضي، ومن الممكن أن يصدر حكماً مختلفاً وفقاً للأدلة والبراهين التي يتعامل معها”.
وتضيف: “عدم وجود قيمة قانونية لا يعني عدم وجود تأثير للقانون أو الأحكام العشائرية. مثلاً إسقاط الحق الشخصي غالباً ما يتم بعد اتفاقات عشائرية، وبإسقاط هذا الحق غالباً تخفض العقوبة إلى النصف”.
وتشير إلى أن “قوة القانون العشائري تنبع بالدرجة الأولى من المنظومة الاجتماعية التي تعطي أهمية كبرى لدور العشيرة”. وتقول: “رغم عدم وجود أثر للأحكام العشائرية على قانون العقوبات، نرى أثرها واضحاً في قانون منع الجرائم، وبالتالي فإنه رغم إلغائه ما يزال حاضراً خصوصاً في المناطق خارج العاصمة”.
ويرى الخبير في حقوق الإنسان فادي القاضي أنه “ليس هناك أي مشكلة في الحفاظ على العادات، لكن يحب أن تكون منسجمة مع احترام حقوق الإنسان”. ويضيف: “ما دام هنالك بنية قانونية ونظام قضائي مستقر صادر عن جهاز تشريعي وهو مجلس الأمة، ويخضع لرقابة المحكمة الدستورية، لا يجوز استبدال هذه المنظومة المستقرة والأطر القانونية المدنية بأطر أخرى لا تخضع للتشريع والقانون المعمول به في الدولة”.
لكن للزهير وجهة نظر مختلفة، فهو يرى أن العشائرية ساهمت في كثير من الأحيان في تحقيق الصلح والأمن، وأن الأعراف العشائرية مكملة للقانون ولا تلغيه. رغم ذلك، يقرّ الزهير بضرورة تطوير الأحكام القضائية العشائرية لتتناسب مع الزمن الجاري.