راديو موال : كتب: الدكتور محمد علوش
إن الشعر مساحة للحرية لا حدود لها ولا بدّ للشاعر أن يتنفس حريته بدون حدود. وإن أسئلة الشعر تبقى مفتوحة دائماً، يذهب إليها الشعراء مباشرة منفتحين على فضاء الكتابة الرحب بمعناها الحيوي، والقصيدة دائما تملك مفاتيح الغواية ولا يمكن لأي شاعر كان أن يتملص من قصيدته إلا أن طقوس الحياة أحيانا تغير لهجتنا في الكتابة. في (طهارة الصمت) وأثناء تعليقه على الكتابة وهمـوم الثقافة ، قــدم مؤلف الكتاب – المتوكل طه – رأيه ورؤيته الواضحة لماهية ودور المثقف حيث اعتبر المثقف الحقيقي هو المثقف الذي يرى مستقبله على ضوء ماضيه، ولا يستعير مصابيح الكهوف، في حين أننا بحاجة إلى مصابيح تكشف الطريق ليس إلاّ! والمتوكل طه شاعر فلسطيني معروف على المستوى العربي، شق طريقه مبكراً وعلق قصائده على هامات الشعر بصياغته الشعرية الذكية، ورغم تعثر الوسائل فقد ذهب الشاعر نحو بناء ممرات للتواصل، كاسراً الحصار
في مواجهة ضارية ضد سياسة العزل الثقافي الممارسة من قبل الاحتلال الصهيوني الغاصب الذي يحارب حتى الكلمة! وهذا الشاعر يتمتع بغريزة شعرية متدفقة ويتصف بالصدق الفني والتعبيري في كتاباته ، وكذلك مشاعره الحساسة والمرهفة ، يتنفس هواء فلسطين ويعشق تربتها ، ويعرف لغة طيرها، ويناجي أنداء أعشابها ويستلهم صبرها. لغته الشعرية قريبة من النفس ومؤثّرة في الوجدان وتنبض فيها الحياة، والمتوكل طه يضع هويته في قصيدته ويجعل من لغته الراقية عنواناً كبيراً لهذه الهوية، وفي السنوات السابقة استطاع هذا الشاعر الدؤوب والمتواصل أن يتوهج بشاعريته الناضجة وأن يثبت حضوره على درجة عالية من الإرادة والتصميم ، متكئاً على روافع الابداع، وقد تمكن من تحقيق ذاته من خلال ذائقته الفنية وقصيدته الخاصة التي من قراءتك الأولى لها تدرك أنها للمتوكل طه. شق طريقه منذ البداية ، باحثاً عن هويته ، جسوراً في طرح المواضيع وقوة الإرادة والصراحة والشفافية والانحياز للكلمة الحرة، مبلوراً أفكاره، ومسلطاً الضوء على انسانية الشعر وجوهر الكلمة ومسكوناً بهاجس القصيدة، وينطبق على المتوكل ما قاله الدكتور شاكر مصطفى في احدى دراساته: “يكتب على سجيته ومن خلال تكوينه النفسي، تماماً كما يسير ويتنفس على السجية ضمن آليته الفيزيولوجية ، انه يطرح نصوصه دون تأنف ، يفرغ
نفسه وروحه على الورق”. (الرمح على حاله)- عنوان الديوان ، وكما هو معروف فإن للعنوان الأدبي جماليته الخاصة وفلسفته القائمة على سيميوطيقاً التواصل مع نصّه من جهة ومع مستقبلات المتلقي من جهة أخرى ، والعنوان بنية ضاغطة ومركزية من البنيات الأسلوبية المؤلفة لهيكل النص وهيئاته ونظامه، وللعنوان وان كان رمزياً فإن له دلالته على مجمل ما جاء في الديوان تقريباً والذي يشتمل على عدد من القصائد والاجتراحات المتفاوتة في موضوعاتها وتركيباتها اللغوية والنفسية والشعورية ، ومختلفة في شكلانيتها وصياغاتها ومقاصدها وقد اجترحها الشاعر بأسلوبه المرهف وخياله الحالم ولغته الغنائية المبدعة وفضائه الرومانسيّ، وفي ديوانه وكما يقول علي الخليلي: فإن التقارب يتدفق في فيض القصائد ، هادئاً ومطمئناً في البوح الإنساني حينا وعاصفاً في الغضب الجارف حينا وهو في جميع أحواله وأحيانه، متوافق برؤية الشاعر ورسالته وبمعنى الشعر ومعناه وعلى ايقاع هذا التوافق لا ينكسر فيض القصائد وهو يتصاعد بين يدي الشاعر بالتفعيلة أو العمود العروضي الكامل ، أو النثر ، وإنما يشتد ويقوى ويملك فرادته الإبداعية ، طالما أن هذه الأشكال أو البنى الفنية على اختلافها ، تخدم رؤية الشاعر ورسالته ووجدانه في بناء حركة التقارب للفيض الشعري كله. ثمة مكان مقيد وشروط متغيرة ولغة تنمو مثل كائن حيٍّ والمكان صاحب الفكرة ، ونرى في هذا المكان تداخلاً وتمازجاً مع حالات الشاعر
وخصوصياته، ونراه يحسّ ويشعر بالكل وبالمكان وهو يناقش ذاته: وكنت الذي جاء من رحم ميناء بحرٍ بعيد.. فكنت الوليدَ وكنتَ الشّريد، وكنت القصيد! فكيف قبلت البقاء على درج الدّار؟ كيف رضيت بأن يدفنوا أمكَ البكر خلف الجدار؟ وكيف تدافع عن قاتل يسرقُ الماء والنارَ والرّيحَ والجلّنار؟ بدعوى الإخاء وحفظ الدماء؟! (ص15-16)
هذه هي حالات الشاعر مفعمة بالخصوصية ، ينافح عن الشمس في الطنين حتى يأخذ الشعر تربته ويبقى الاسمُ والرّوحُ فيه، يريد الشعر الصادق والغاضب بعكس الشعراء المدّعين الذين لم يقولوا من النّظم غير الصَّدى. وتأتي معظم النصوص هنا مترصدةً الأحزان والأشجان الجياشة والعواطف المترعةٍ وتداعيات الفلسفة، وشاعرنا يبني قصائده بأنفاس فلسفية، مسكوناً بروح الفلسفة وتجلياتها، وفي عباراته العبرة والابتكار: تراءيتَ في الدّنِّ والصّبيةِ المُردِ،
بالغتَ في الشأو، هذي اللزوجةُ إحدى وسائدنا، إن خلعنا القناعَ، وهذا الذهابُ لذائذُنا في الشّراعِ، وعند المشيبِ هدوءٌ.. ولبيك يا ربّ حمدُك. (ص22-23)
والمتوكل طه، شاعر يعاني مع شعبه واقع القهر والمأساة، ولا نجد لديه الياس والسوداوية، بل نراه مؤمناً بحافز التغيير والانقلاب ، قابضاً على جمرة الحلم والابداع ومتوهجاً بنبض الحياة كما في العديد من قصائده، يستنبط الأمور بتفكير واقتدار ، ويركز على العاديّ واليوميّ مدركاً ان هذا الشعر هو الأقرب الى قلوب الناس، إذ يحكي لهم وعنهم ، وهو بهذا إنما يؤسس لقصيدته الخاصة والعميقة ، وهو حين يكتب عن الأمور البسيطة هذه وبهذا الزخم الأدبي والعطاء الشعري المتفجّر انما يكتب من أجل المناقشة وتفتيح العيون على الهامش المنسيّ وهو يلفت الأنظار لأمور يجهلها من يرى في الجهل وجهتهُ.. يكتب عن مسائل الحياة اليومية ليس بصفته مسؤولاً عن يوميات ما، بل من باب المشاركة الوجدانية التي تفرضها ثقافته ومواقفه المسبقة، وفي قصائده بوحٌ بقدر ما فيها من اختلاس من جزئيات الواقع، ولغة قصائده فيها ابتكارات لا بدّ لها من وقفة تأملية وقصائده تتميز من حيث
الاتصال بالواقع الفلسطيني والعربي وواقع الانسانية المسحوقة المعذبة بشكل عام مضموناً وأداءاً لغوياً بلغة شفافة ومنطلقة ومرهفة المشاعر وأحياناً طافحةً بالحزن والفجيعة كما في قصيدة (دمعة في قونيتز): غير أنّي تذكّرت ضفائرَ قلبي وأولئك الذين لم يعد لهم أباء ويرتعشون تحتَ الزخّات المزدوجة .. ولعلي بكيتُ ، وأنا أصفُ مراجيحَ النّعوشِ الطائرة.. (ص120)
وهذه القصيدة / الجرح تتحدث عن البوسنة وعن موقع صغير فيها تعرض للمذبحة على خلفية إثنية وبصورة وحشية على يد الصرب … ويستلهم المقاومة ومعارك الفداء وأعراس الحرية وقصيدته تؤازر حلما لا يموت ، وفي ( رفح) يتصدى للعدوان والبربرية ويرفع صوت المعذبين وينتصر للإرادة الوطنية الحرة والجباه التي لا تلين:
يا لعنة الزمن الأعمــى كفى صلفاً أكلما زاد دمعــي .. كلما سبحوا؟ لربما زادت الأيـــامُ .. وانكشفت هذي البيوت عراءً ، والمدى نطحوا وربما اغتصبوا شبراً على جسدي
لكنهم، غير هذا العار ، مـا ربحوا فليشرب العالم الفاشيُّ ثانيـــةً دمي النبيّ من الكأس الذي طفحوا. (46)
ولا يخفي الشاعر مشاعره الوطنية ، وكيف له ذلك ووطنه مغتصبٌ وحريته مستباحة ، ولا بدّ له بأن يكون لساناً للشعب وها هو يكشف أسرار (النقيض) الذي غيّر معالم الأرض ودنّس القداسة: والخرافةُ تأخذ الأرضَ البريئةَ – دونما حرجٍ – هنا بَدْءُ الجيوش وقد تأسس مبدأ السيفِ الذي – بأناقةِ الذَبْحِ المُمدد- سوف يزرعُ ريحَ مَنْ عادوا إلى الوطن المقدس !! (ص184)
إنه يمتهن الشعر كممارسة ثقافية في حقل تاريخي ، يخاطب التاريخ وجغرافيا القصيدة ، ويطرح تساؤلات جذرية وجدّية غير مزورة للوعي وتنطوي على رؤية تقدمية متماسكة ، والشعر لدى المتوكل طه محرض غير بريء وعدم براءته تتأتى من علاقته السرية التي تربطه بشبكة العلاقات الواسعة التي تمتد باتجاهات مختلفة واستنهاضات ذهنية تتجسد في تمثيل أغراض الشعر والفعل الصادم في القصيدة وجوهره..
في قصيدة (التّمثال) يجسّد الشاعر معناه ، ويدخل معمعة التراكمات النفسية وصراعاتها ، بين الخروج والدخول، والصمود والهبوط بأسلوب فني متوتر وحاشد بالمفاهيم والقيم الثورية، وهذه القصيدة من القصائد المهمة والرائعة في المجموعة إذ تزدحم فيها الصور والمعاني والأفكار ، إضافة إلى أنها تشريح لحالة هي بين الواقع والخيال بطريقة ذكية تجمع بين الدراما والسخرية المرّة: عندما انطلق الغاضبون وأنزلوه… فاض الدمُ حتى غطّى الخياشيمَ الذّليلةَ! من يرفعْ قَهْراً يُنزل شَرّاً .. والحبالُ في انتظار الكثيرين. (ص127)
وبعدما أنزلوه وفي اجواء مشحونة ومتوترة أمام المشهد ، يكمل الشاعر في فقرة أخرى: صمدوه امام الخيمة طاهراً ، دونَ غُبار والتمْرُ يُمسك ملامح الإله.. وعندما جاعوا أكلوه !
ويواصل الشاعر ويتواصل في صفاء النفس والروح والخاطرة، متجلياً بصوفية ممزوجة بتوجساته وقصائده تحمل في داخلها إرهاصات الولادة والتجدد والنمو والاستمرار ، وكما قال أندريه مورما: (إن تكتب معناه أن
تكشف نفسك) وقد كشف شاعرنا أحوال نفسه المرهفة ومقاماتها وقد باحَ بما يخفيه في روحه القلقة وقد واجه نفسه ذاتياً وموضوعياً في الأونة نفسها، وشعر المتوكل هو أناه وتلخيص لتجربة معاشة، وفيه تفاعل بيّن مع الواقع وفيه انفتاح على تجارب الآخرين وفي قصائده أصداء الشعراء العالميين وافادة من فتوحاتهم الشعرية. المتوكل مثابر وقصيدته مثقفة وهو مسؤول أمام الكلمـة والقيمة الأدبية ، والشعر هنا- كما نراه في المجموعة، عملية ملاحقة للجهد النفسي، وهو الحصان الجامح الذي يمتطيه الشاعر ليخوض معركته مع الأنا والآخر، وهناك أساليب متعددة في شعره وعلى كافة البحور والأوزان وهو يحاول هنا الحد من صخب القصيدة والتحكم بإيقاعها، ولقصائده ملامح متفاوتة بين التبسيط وبين التعقيد، وتفتح فضاءاتها لتموج عذب في اللغة ، كما أن نبرةً من القلق المرتاب تتسرب إلى ثنايا النص، وهي قوام كل أفق يسعى إلى أن يكون مزحوماً بالدلالة والرؤى حسبما يرى د. علي جعفر العلاق في حداثة النص الشعري، ولا يكف الشاعر عن تحريك شكل القصيدة لتتجاوز الكون اللغوي وحده، وليجعل القصيدة حركة تشمل النص وفسح البياض الفكري والرؤيوي ، عبر استراعته الكلمات التي ينحتها في قصيدته ، ولا يحاول الشاعر اغراءنا بما استصاغه شعرا فحسب، بل يدعونا للتوغل في نصوصه فنحن أمام شاعر حصيف له تجربته وخصائصه، ممتطياً صهوة النشيد على ظهر قصيدة ، يحلق في فضائه هو، في عالمه الخاص، وتتسع رقعة
الموضوعات التي تهم الشاعر ، وهناك تداخل في موضوعاته الوطنية والعاطفية والذاتية وهناك حوارات داخلية وأسلوباً قصصياً في قصائده. لا يكتنف الغموض ويؤثر الرمزية الشفافة ، ويعتمد السهل الممتنع لغة وأسلوباً ، غنيا بالصور الشعرية والبلاغية وايقاعاته المتعددة ولغته الايحائية والسلسة وألفاظه المحكمة والدقيقة صرفاً ونحواً ، وقد جمع بين اشكاليات وجدليات مختلفة ، الحسي والذهني ، والملموس والمتخيّل ، ويتعامل مع النص بحاسيته المرهفة والمسؤولة، ويتمتع بصوت شعري خاص ومختلف ويتميز بالأصالة والاكتشاف وصدقية وموضوعية الكلمة ، وكذلك الاختلاف ، حيث أنه لا يفارق خطه في ا لتجديد والمحاولة ويبحث عن الاختلاف، يحلق في فضاء الشعر غير مستعير لأجنحة غيره من الشعراء الذي سبقوه وإن كان قد خرج من عباءاتهم مع إدراكه بأن الشعر لا يولد من فراغ وأن من سبقونا هم الدالية التي نتعربش على حروفها. الدكتور محمود أمين العالم قال مرةً فيما يشبه الحكمة: ( ما أحوج حياتنا إلى شعر، وما أحوج شعرنا إلى حياة ، وما أحوج إنساننا الى شاعر، وما أحوج شاعرنا إلى إنسان). ويدرك المتوكل بأن الشعر لا يمكن أن يعزل عن الخطاب السياسي والاجتماعي والثقافي، وأن لكل مرحلة شعرية فلسفتها ، فلا يعقل مثلا أن نطالب عمرو بن كلثوم بحداثة أدونيس وهكذا فلكل قصيدة سياقها التاريخي ، وشعرية القصيدة لا تقع خارج لغتها، وإنما تندلع من خلال ما يُقدم عليه الشاعر من تجاوزات بارعة، وانتهاكات عجيبة لثوابت القول، وعادات التعبير المتعارف عليها، فالقصيدة في حقيقتها ليست الا خضرة خلاقة تندلع في خشب اللغة كما جاء في (حداثة النص الشعري) للعلاق. بعض القصائد تقوم على موروث ديني وهذا بارز في التجليات الشعرية مباشرة وغير مباشرة وفي ذلك تعميق للانتماء وتعبير عن الهوية التي يريدها الشاعر لنصه، وربما جاء ذلك من خلاله ثقافته القرآنية الواسعة وربما بدوافع الالتزام الديني أصلاً، والتناص الذي يقوم به الشاعر باستشفاف عميق للنص إنما يقوم به أساساً بصفته مصدراً من مصادر التعبير الشعري وتتكشف به الدلالة ويثريها بالرموز الخصبة التي تظهر ثقافة وسعة اطلاع الشاعر في هذا المجال. في قصيدته المميزة (عطر الصلصال) المهداة إلى (سيّدنا محمد.. عليه الصلاة والسلام – في يوم مولده ) يكتبها الشاعر بنبرة تقدمية وبلغة العصر وفيها قصة سيّد الأنام ، تتجلى فيها القداسة واشارات النبوة وحلاوة الايمان:
ومن يومها عرف عطر الصلصال، وابتهج الجدُّ صاحب كوثى ، التي أنقذها جَفْرُها بردائه الشريف ، ورفعَ الحَجرَ وكان الحَكم.. حيث كان يتحنّثُ، والرضّفُ يُسلّم عليه..
– الأمينُ شريك الناس في أحلامهم – وتوَّجها لما تأمّلَ وحْدَهُ … وهزّه أخوه: اقرأ ! لكنه القاريء الدّنيا ومُبشرُها من الرأس إلى يثربَ.. وإلى سدرة ا لمنتهى .. وخلعت الأرضُ ثوبَ الأفعى وخرجت الى صُبحها . (ص66-67)
أوصلتنا هذه القصيدة الى أجواء صوفية ، إلى نشوة صدق من فيض النبوة ، وفي القصيدة استلهام لهذه السيرة العطرة والمولد الشريف، وفي قصيدته ( تعقيبٌ على القول) المكتوبة في حزيران 2003عن صاحب السيرة النبوية – عليه الصلاة والسلام، يرد من خلالها على المتطاولين على الرسول قبل ظهور الرسومات الحاقدة التي نشرتها صحف دنماركية وغربية تروج للعنصرية والانحطاط : لستُ من علماء الرسوم ، لكنني أريد للقلب أن يمتلىء بالدّموعِ وهو يشربُ السيرة البيضاء..
وأصلّي وأسلّمُ على صاحبها الذي دنا فتدلّى، (ص75)
الشاعر في ديوانه مختمر التجربة ، ومتمرس بين سجايا اللحظة وانهمار النص والصورة الشعرية لديه تأخذ أشكالاً متعددة ، وفي ديوانه هذا كما ظهرَ له علي الخليلي، ليس ثمة من حاجز بين شكل وآخر أو بين بنية وأخرى فيها، حيث تتمكن هذه الأجواء من الانعتاق والتفتح على المكان بأقصى ما يصل اليه حيّز، وإلى الزمان بكل امتداداته في الباطن والظاهر وعلى سعة الشوق والعذاب والكبد التي تشتمل عليها صهوة هذه الامكانية الفذّة ، نعبر إلى المكان في مشهده الفلسطيني ونندفع بما شاءت الجغرافيا المشهدية إلى امكانيات وأماكن أخرى في الدنيا، إلا أن فلسطين تبقى على الصهوة سيّدة الأماكن ، وعلى رأس القصيدة في كل حين، حتى أن الشاعر لا يتذوق المكان على امتداد العالم، إلا عبر ذائقته الفلسطينية. في (الرمح على حاله) قدم الشاعر تجربة جديدة ومضامين جديدة ، وقد كمنت حكمته وبراعته في هذه المجموعة المشحونة بطاقة الابداع والاستغراق فيها. المتوكل طه شاعر متمكن وقدير، جدير بالقراءة ما دام قابضا على جمرة القصيدة وحارساً لنارها. وقدّس اللهُ سرَّ الكلام.