راديو موال – رغد زهران / أراكَ متمدداً أمامي يا ولدي، ترتدي كفنك الأبيض كأنك ملاكٌ من جنّة الفردوس، وجهُكَ كسماءِ فلسطين، ورائحتُك عطرةٌ كترابِ أرضها، تلك الأرض التي يموتُ لأجلها وبسببها فلذاتُ أكبادها وأخيارُ شبابِها، أراك متمدداً لكنّ الابتسامة تزيّنُ وجهك، فأنت الذي مات لأجلِ لقمةِ العيش، ولبناءِ مستقبلٍ يليقُ به وبأصولهِ الفلسطينية العظيمة. أراك متمدداً أمامي يا ولدي وأُحاوِلُ البحثَ في أعماقي عن ابتسامةِ فخرٍ لأنّك وإن لم تكن شهيدُ ثورة، فأنت شهيدُ غربةٍ وحشيةٍ قاومتها بكلِّ قوتك لينتهي بكَ المطاف وأنت شهيدٌ لها.
شريطُ سنواتِك يَمرُّ سريعاً بمخيلتي، أذكر يا ابن قلبي عندما تخرجت بدرجة الدبلومِ في مجالِ هندسة شبكاتِ الإنترنت كم كنتَ فرحاً بإنجازك هذا، لكن الفرحة لم تَدُم طويلاً فمجالات العمل في البلادِ مقتصرة على القليل القليل، لكنك أقوى وأعندُ من أن تستسلم فعملت على سيارةِ أجرة في قريتنا بورين؛ لنقل سكانها الذين يُحبونك ويثقون بك، عملتَ لسنواتٍ في هذا العمل لكنّي أعلمُ وتعلم أن عملك هذا لا يكفي لبناءِ مستقبلِ شابٍّ طموحٍ مثلك، فما كان عليك سوى الانصياع لنصيحة أقربائنا الذين يسكنون في الولايات المتحدة الأمريكية، لتذهب اليهم وتعمل هناك، فيوجدُ العديدُ من الشبّان أبناء شعبك غادروا البلادَ الى بلاد الغربة، وعملوا وكدحوا كثيراً ثم عادوا لأرضِ الوطن وعاشوا حياةً ميسورةً جيدة.
لقد كنتَ متردداً في بدايةِ الامر، لكنك عزمت على السفر في النهاية، رافقوك أصدقاؤكَ للمطار ودعوك وهم يرون في عيونك التردد بأمر السفر، ودَّعوك وهم يسمعون صوت قلبك وهو يناجيك بالبقاء، لكنّ قدرك كان يمسك بيدك دون ان تشعر ويصطحبك لبلاد الغربة بلاد الموت.
وصلت امريكا وبدأت العمل في بقالةٍ كبيرةٍ بإحدى ولاياتها، وبدأت تعتادُ على المكان والعمل وعلى نمط الحياة هناك، أخبرتنا عندما كنت تتحدث معنا كم أنت سعيدٌ في تجربتك تلك وكم أنك متفائل وكم أنّ تحقيق حلمك اصبح قريباً، قريباً جداً.
غدرٌ وغربة
لم تلبث سعادتك تلك الا شهوراً قليلة، حيثُ بدأت مشاعر الخوف والقلق تسيطر على عقلك، ومشاعر الاشتياق تسيطر على قلبك، تعرضت بقالتك للعديد من عمليات السطو والسرقة ولكنك تصديت لها بكل قوةٍ وعزم وأفشلت إتمامها، لكن الخوف كان يزيد، والقلق يكبر ويكبر، اختفى الأمان من حياتك، لكنك الآن في طريق تحقيق ذاك الحُلم الذي غادرتنا لأجله، لذلك كان عليك إمّا التنازل عن أحلامك وترك الولاية والعودة، أو أن تتحلى بصفات الصبر والشجاعة لنيلِ مبتغاك، وخصوصاً أنك الآن مخطوبٌ وعليك من المسؤولياتِ الكثير.
لم تحتار كثيراً يا عُديّ، فسرعان ما أخذت القرار بإكمال الطريق الذي خضته وعبرت نصفه، قررت أن لا تيأس وأن لا تستسلم فقد فات الكثير ولم يتبقى سوى القليل، لم نكن نعلم أنه حقاً لم يتبقى لك سوى القليل، لكن القليل كان عمرك يا ولدي.
تحدثنا معك في تلكَ الليلة كثيراً وأخبرتنا كم أنّ قلبك أصبحَ متعلقاً بالله أكثر من ذي قبل وأنك بحالٍ جيّد وأنك قد جمعتَ من النقود مبلغاً جيداً كما خططت، تحدثنا كثيراً معك ولم نكن نعرف أنه كان حديثنا الأخير.
خرجت في الصباح لعملك كما اعتدتْ دوماً، وضعت ورقة في جيبك وكتبت فيها أنك استودعت نفسك لخالقها الذي لا تضيع عنده الودائع، كتبتها وكأنك تستبق أحداث يومك، مضيتَ لعملك الى أن خرج أمامك ثلاثة لصوص ملثمين، أرادو سرقة تلك النقود التي تغربت لجمعها، حاولتَ التصدي لهم ومقاومتهم لكنهم سرقوها وسرقوا روحك معها ، أربع رصاصاتٍ كانت كفيلة بأن تأخذ روح شاب في ريعان عمره، ذهبتَ وأخذتَ معك ضحكاتنا، لكنّك شهيدٌ عند الله يا بُنيّ، أراك متمدداً أمامي وقلبي يحترق، أستودعك بنيَّ يا الله، أستودعك قطعة من قلبي يا من لا تضيع عنده الودائع، استودعتك عُديّ شهيد الغربة.